تعاني الدول النامية من مشاكل هيكلية في اقتصادها، وتتفاقم هذه المشاكل مع ظهور أزمات مفاجأة، في هذه الأثناء يظهر صندوق النقد الدولي منقذاً لهذه الدول وداعماً من خلال قروضه المشروطة باصلاحات إجبارية، لكن هل قروض صندوق النقد الدولي بريئة وتسعى لصالح البلدان المقترضة فعلاً؟، وهل الاصلاحات المفروضة تعالج اقتصادياتها أم تكرس تبعيتها وفقرها؟، هل نجحت الدول المقترضة في تحقيق التنمية المنشودة؟.

ما هي صندوق النقد الدولي ومهامه

هو وكالة متخصصة من وكالات منظمة الأمم المتحدة، مقره واشنطن، انشئ بموجب معاهدة دولية عام 1945، للعمل على تعزيز السلام الاقتصادي العالمي، يديره أعضاء من جميع دول العالم تقريباً.

يسعى صندوق النقد لخلق بيئة اقتصادية أكثر استقراراً، كما يقوم بتقديم المساعدة المالية والمشورة للدول الأعضاء، لمعالجة العجز المؤقت في ميزان المدفوعات، وتدعيم استقرار أسعار الصرف، والتوسع المتوازن في التجارة العالمية، وتجنب تخفيض قيم العملات.

كما يقوم صندوق النقد الدولي بالإشراف على السياسات الاقتصادية الكلية للدول الأعضاء، وهذا يشمل أداء الإنفاق الكلي مثل الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري والناتج القومي ومعدل توظيف العمالة والتضخم. كما يهتم بإدارة النقد والائتمان، وسياسات القطاع المالي التي تنظم عمل البنوك والمؤسسات المالية والرقابة عليها.

بالإضافة إلى اهتمامه بالسياسات الهيكلية التي تؤثر في الاقتصاد الكلي، كما يعمل على تقديم المشورة لكل دولة من الدول الأعضاء حول كيفية تحسين سياسته الكلية، بحيث يتيح مزيداً من الفاعلية في السعي لبلوغ أهداف مثل ارتفاع معدل توظيف العمالة، وتخفيض التضخم، وتحقيق النمو الاقتصادي القابل للاستمرار بدون مصاعب مثل التضخم والاختلال في ميزان المدفوعات.

اقرأ أيضاً: كيف تحدد أسعار صرف العملات ؟

تطورت مهمات صندوق النقد الدولي  لتشمل إدارة الأزمات المالية والنقدية للدول، حيث يؤمن القروض للبلدان التي تواجه أخطار تهدد نظامها النقدي وتعرضها للإنهيار المالي، كما يساعد الدول التي لا تستطيع تسديد مستحقاتها الدولية، أو تواجه عجزاً في استيراد المواد الأساسية بسبب النقص في العملة الصعبة.وهنا  يتدخل صندوق النقد لمنح القروض مع اشتراط إصلاحات تقلل من المصاريف العامة الحكومية غير المُجدية من وجهة نظره.

إعتمد صندوق النقد الدولي إستراتيجية عملية بعد الأزمة المالية في العام 2008، تقوم على تخفيض شروط منح القروض، فلم تعد القروض لتخفيف العجز في الموازنة فقط، بل تطورت وظيفته لمنح القروض إلى ميادين محددة، كإعادة إنعاش الوضع الإقتصادي. من ناحية أخرى طور الصندوق آلية مراقبة للنظام المالي الدولي عبر التنبؤ بالأزمات الإقتصادية والمالية، كما طور الصندوق عام 2012 إستراتيجية تقوم على تحليل المخاطر والربط ما بين النمو الإقتصادي والإستقرار المالي.

اقرأ أيضاً: كيف أصبح الدولار حجر أساس في النظام النقدي العالمي؟

نشأة صندوق النقد الدولي

ظهرت فكرة إنشاء صندوق النقد الدولي من الاهتمام الأممي في قيام نظام اقتصادي دولي أكثر استقراراً، والحرص على تفادي الأخطاء التي وقفت عائقاً في وجه الاقتصاد الدولي في العقود السابقة التي أسفرت عن خسائر فادحة، فجاء صندوق النقد نتيجة أحداث تاريخية أهمها الحرب العالمية الثانية، وأثرت به الأفكار الاقتصادية والسياسية التي سادت البلاد في تلك الفترة.

لذلك أنشئ صندوق النقد في نهاية الحرب العالمية الثانية خلال السعي لبناء نظام اقتصادي دولي أكثر استقراراً، حيث اجتمع وفود 44 بلداً في مؤتمر بريتون وودز في عام  1944 بهدف  إنشاء مؤسستين تحكمان العلاقات الاقتصادية الدولية في أعقاب بعد الحرب العالمية الثانية، فكان تأسيس البنك الدولي للإنشاء والتعمير بهدف استعادة النشاط الاقتصادي، في حين يسعى صندوق نقد دولي لاستعادة قابلية تحويل العملات و النشاط التجاري متعدد الأطراف، يهدف إلى تشجيع الإستقرار النقدي والتعاون في مجال النقد، وتقديم القروض للدول التي تواجه صعوبات مالية. وقد كان الحافز الرئيس لإنشاء صندوق النقد هو تحقيق النمو الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية.

اقرأ أيضاً: الدورات الاقتصادية ، كيف تحدث الأزمات الاقتصادية؟

ما هي صندوق النقد الدولي ومهامه

أهداف صندوق النقد الدولي

يسعى صندوق النقد لتحقيق أهداف متعددة:

  1. تشجيع التعاون الدولي في المجال النقدي من خلال إيجاد هيئة دائمة تسهل سبل التشاور فيما يتعلق بالمشكلات النقدية الدولية.
  2. تيسير النمو المتوازن والتوسع في التجارة الدولية، مما يسهم في تحقيق تخفيض مستويات البطالة وإرتفاع في الدخل الحقيقي، وتنمية الموارد الإنتاجية للبلدان الأعضاء، بشرط أن يكون ذلك من الأهداف الأساسية لسياستها الاقتصادية.
  3. السعي لتحقيق الاستقرار في أسعار الصرف وتجنب التخفيض التنافسي في قيم العملات.
  4. العمل على إقامة نظام مدفوعات متعدد الأطراف لإنجاز المعاملات الجارية بين الدول الأعضاء، وإلغاء القيود المفروضة على عمليات الصرف المعرقلة لنمو التجارة العالمية.
  5. تعزيز الثقة لدى البلدان الأعضاء، وإتاحة استخدام الموارد العامة لصندوق النقد مؤقتاً بضمانات كافية، حتى يتسنى لها  تصحيح الاختلالات في موازين مدفوعاتها دون اللجوء إلى إجراءات تضر الرخاء الوطني أو الدولي.

اقرأ أيضاً: تعرّف على الرأسمالية في 3 نقاط فقط

مصادر تمويل صندوق النقد الدولي

المصدر الرئيس لموارد صندوق النقد هو اشتراكات الحصص التي تسددها الدول الاعضاء عند الانضمام لعضوية الصندوق أو بعد المراجعة الدورية التي تزاد فيها الحصص، حيث تدفع الدول الأعضاء 25% من اشتراكات حصصها بحقوق السحب الخاصة أو بإحدى العملات الرئيسية مثل الدولار أو الين الياباني، وقد يتيح الصندوق دفع المبلغ المتبقى بالعملة الوطنية لغايات الإقراض حسب الحاجة، تحدد الحصص المبلغ المطلوب دفعه من كل بلد وكذلك يحدد عدد أصواته وحجم التمويل المتاح له من الصندوق ونصيبه من مخصصات حقوق السحب الخاصة.

تعكس أحجام الحصص حجم البلد العضو النسبي في الاقتصاد العالمي، فلكما ازداد حجم الدولة من حيث الناتج ازداد اتساع تجارته وتنوعها وبالتالي ازدادته حصته في الصندوق، فمثلاً الولايات المتحدة الامريكية أكبر اقتصاد في العالم تسهم بالجزء الأكبر في صندوق النقد الدولي، حيث تبلغ حصتها 17.6% من إجمالي الحصص، في حين دولة مثل سيشيل تمثل أصغر اقتصاد في العالم تسهم في الصندوق بمقادار 0.004%.

يعمل صندوق النقد على أساس نظام التصويت المرجح، فكلما زادت حصة البلد التي تحدد بناء على حجم اقتصاده كما بينا كان له عدد أصوات أكبر بالتالي كان له أثر أكبر على قراراته، ولذلك تتمتع أمريكا بالهيمنة الأكبر على صندوق النقد ولا يصدر قرار عنه إلا بموافقتها فهي الوحيدة التي تتمتع بحق الفيتو!.

اقرأ أيضاً: ما يجب معرفته عن ميزان المدفوعات

شروط الاقتراض من صندوق النقد الدولي

يشترط صندوق النقد إلتزام الدول ببرامج إصلاح اقتصادي والتكييف الهيكلي، حيث توجد ثلاث شروط للحصول على التسهيلات المرتبطة بعملية الاقتراض، وهذه الآليات الثلاثة هي:

تحرير الأسعار

تلتزم الدول المدينة بتحرير أسعار السلع والخدمات ومستلزمات الإنتاج، والحد من صلاحيات الدولة في تحديد الأسعار، وإلغاء الحد الأدنى للأجور، كما يجب تحرير أسعار الفائدة، تحرير الأسعار سيؤدي لارتفاع الأسعار ويضر بالمجتمع ككل خاصة الطبقة محدودة الدخل.

سياسة الخصخصة

يرى صندوق النقد الدولي أن النمو الاقتصادي يتحقق في ظل وجود اقتصاد حر، لذلك يسعى لخصخصة النشاط الاقتصادي من خلال خصخصة القطاع العام وتصفية المشروعات الحكومية الخاسرة، ليعاد تشغيلها على أساس فلسفة المشروع الخاص ليحقق الربح، ينتج عن ذلك تسريح العمال مما يؤدي إلى إرتفاع معدل البطالة، كما يؤدي لرفع الأسعار نتيجة لرفع الدعم الحكومي عن بعض السلع والخدمات التي يقدمها القطاع العام.

تحرير التجارة الخارجية

يطالب البنك الدولي الدول المدينة بتخفيض سعر العملة المحلية، وإلغاء القيود التجارية مما يشجع عملية التصدير ويعزز القدرة التنافسية للمنتجات المحلية، كما يطالب بإلغاء إتفاقيات التجارة والدفع والسماح للوكالات الأجنبية بالعمل في الأسواق المحلية، وتخفض الرسوم الجمركية، وإلغاء القيود الكمية على الواردات وعدم إتباع سياسات تقوم على إحلال الواردات أو حماية الصناعات المحلية.

نتج عن برامج الإصلاح هذه امتصاص أي فائض في الطلب وزيادة الاحتياطيات الرسمية للدول المدينة من العملات الأجنبية يضمن صندوق النقد فيه سداد الديون ورفع الجدارة الإتمانية لهذه الدول، واقتنص صندوق النقد أي تعثر لهذه الدول لإلزامها بآليات السوق وسياسات الاقتصاد الحر. مما يؤدي إلى تغيير ملامح الدول المدينة في النواحي الاقتصادية والمؤسسية والتشريعية، وينحى بالدول إلى الإنفتاح الاقتصادي، لتحقيق الاندماج مع الاقتصادي الرأسمالي العالمي.

يقول الاقتصادي الأميركي، جوزف ستيغلز

الإصلاحات الاقتصادية التي يطلبها صندوق النقد كشروط ليُقدّم القروض، تسبّبت في كثير من الأحيان بنتائج عكسية للاقتصادات ومُدمّرة للسكان.

أهداف صندوق النقد الدولي

تجارب بعض الدول مع صندوق النقد الدولي

  •  الاردن: تم توقيع اتفاقية التسهيل الإئتماني معها في 2016، حيث يمنح الاردن بموجبه تمويل يبلغ 723 مليون دولار، ألزمت بموجبه بتعديلات قانونية تركز على الإيرادات والضرائب، مما أدى إلى الضغط على الطبقات الوسطى والفقيرة، يرى بعض المحللون السياسيون أن سياسة صندوق النقد تسعى لاغراق الاردن بالمديونية حتى يبقى قراره السياسي بيد أمريكا.
  • ملاوي: كانت سياسات المنظمات الدولية ترى أنه يجب على ملاوي إلغاء الدعم للمزارعين، وقد اجتاحتها في 2002 مجاعة نتيجة لبيعها كل مخزونها من الحبوب لتسديد بعض ديون صندوق النقد، متزامناً ذلك مع انخفاض إنتاج المزارعين نتيجة لرفع الدعم عنهم، حيث أصبح 5 مليون نسمة من شعبها البالغ 113 مليون نسمة بحاجة للمساعدة الغذائية الطارئة وإلا سيلاقون حتفهم.فما كان من الرئيس المنتخب حديثاً بينجووا موثاريكا أن يجد حلًا للمجاعة التي سببتها سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فما كان منه إلا أن خالف تلك السياسات واعاد إعانات دعم الأسمدة. وبحلول عام 2007 كانت سلة الغذاء للدول المحيطة بها.
  • إندونيسيا: تدهورت الحالة الاقتصادية فيها بعد حصولها على قرض صندوق النقد، حيث وصل النمو الاقتصادي عام 1999 إلى 0.2% فقط، كما سيطرت الشركات متعددة الجنسيات على الكثير من أصول البلد سواء في المصارف التي تعرضت للإفلاس نتيجة تخلي الحكومات عنها أو الشركات التي تعثرت بسبب الأزمة المالية.
  • زامبيا: بناء على شروط صندوق النقد الدولي عام 2002 ألغت زاميا التعرفة الجمركية على واردات الملابس، مما أدى لخسائر في أكثر من 140 شركة ملابس محلية انتهت بإفلاسها، ولم يتبقى منها سوى 8 شركات محلية فقط.في حين لم تستطيع هذه الشركات المنافسة وتصدير منتجاتها إلى السوق الأوروبية أو الولايات المتحدة، لوجود تعريفة جمركية تفرضها هذه الدول على وارداتها من الدول النامية.

بشكل عام تسببت برامج الإصلاح الاقتصادي ووصفات صندوق النقد الدولي بإرهاق الكثير من اقتصاديات دول العالم التي لجأت إليهما للاقتراض أو لإعادة جدولة ديونها، حيث تفاقمت الآثار السلبية الاجتماعية بصورة خطيرة، وتقيد دور المؤسسات السياسية الوطنية، كما وجهت انتقادات كثيرة للسياسات التي يتبعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي أصبحت عائقًا صعبًا أمام صنع القرار في عملية الإصلاح.