قبل 2019 لم يكن من المألوف لنا الحديث عن سلاسل الإمداد فقد كان من البديهي لنا أن نجد المنتجات في أرفف المحلات بشكل تلقائي لم نتوقع في يوم أن نجد أرفف المتاجر فارغة، وجميعنا شعرنا بتأخر طلبيات الشراء عبر الانترنت من بلدان أخرى.
كل هذه المظاهر شهدناها نتيجة أزمة سلاسل الإمداد، في هذا المقال سنتعرف على سلاسل الإمداد والصدمة التي تعرضت لها في السنوات الأخيرة؟
اقرأ أيضًا: الركود التضخمي| الكابوس الاقتصادي!
ماهية سلاسل الإمداد؟
سلاسل الامداد هي شبكة متصلة من الأفراد والمنظمات والموارد والانشطة والتقنيات المشاركة في تصنيع ونقل وبيع المنتج أو الخدمة للمستهلك النهائي، بتبدأ السلسلة من منتجي المواد الخام وتنتهي ببيع المنتج للمستهلك النهائي.
سابقًا لم تكن سلاسل الإمداد طويلة فلم تكن المنتجات معقدة وكان من السهل على المنتج أن يحصل على المواد الخام من بيئته المحيطة وفي ذات الوقت يكون قريب من المستهلك النهائي، فمثلا المواد الغذائية والملابس وغيرها كانت تنتج وتباع، لذلك لم تشهد سلسلة الإمداد أي تأخير أوتعطل كبير.
لكن الطفرات التكنولوجية والعولمة واتفاقيات التجارة الدولية جعلت من العالم قرية صغيرة، فأصبح بإمكان المنتج أن يصل لمدخلات الإنتاج في مختلف أنحاء العالم.
هذا الانفتاح أدى إلى ازدهار التجارة الدولية على مدخلات الإنتاج وبدأ ظهور الاقتصاديات الصاعدة الأكثر تقدمًا والأكثر ترابطًا مع الاقتصاديات الأخرى كذلك، مما يعني اقتصادات أكثر اندماجًا مع سلاسل الإمداد العالمية، فأصبح لدينا منتج نهائي يعتمد على مدخلات من بلدان متعددة ومناطق مختلفة مما يعني أن سلسلة الإمداد أصبحت أكثر طولًا وأكثر تعقيدًا وأكثر عرضة للمؤثرات.
على سبيل المثال الجوال الذي تحمله بين يديك الان يحتوي على مدخلات من بلدان متعددة، فقد يحوي ألمنيوم مستخرج من أفريقيا، وسيلكون من أمريكا الجنوبية، ورقائق دقيقة صنعت في آسيا، وتم تصميمه في أمريكا وجمعت أجزاءه في أحد مصانع أسيا، لتشتريه أنت كمستهلك نهائي عبر شركة شحن أوروبية.
هذا الترابط والطول في سلاسل الإمداد يجعلها أكثر عرضة للمؤثرات عوضًا عن التراكم والتعاظم للمؤثرات عليها، فالأزمات التي تتعرض لها يتشابه تأثيرها بأحجار الدومينو التي توقع حجر صغير بداية لكن يكبر الحجر الذي يسقط في كل مرة ليصل إلى حجم لم نكن نتوقع سقوطه من تأثير الحجر الأول.
استمر تطور سلاسل الإمداد بعد ظهورها في التسعينات وكان ظهورها تغييرًا جذريًا في التجارة الدولية واستمر نموها في بداية الألفية الجديدة إلى أن استقرت في العقد الثاني منها.
اقرأ أيضًا: 10 أسباب الركود الاقتصادي للدول.
كيف بدأت أزمة سلاسل الإمداد؟
تعرضت سلاسل الإمداد لصدمة مع بدء جائحة كورونا حيث توقف النشاط الاقتصادي عن عمد بهدف وقف انتشار الوباء، لكن مع بدء رفع القيود لم يتمكن الانتاح من العودة بنفس السرعة التي تم اغلاقه بها.
من ناحية أخرى الصين كانت أول الدول التي تضع القيود لوقف انتشار الوباء وأوقفت التصنيع في حين استمر العالم في التصنيع، ذلك أدى لإحداث خلل ما بين العرض والطلب عالميًا.
لم يتوقف تأثير كورونا عند هذا الحد بل أحدث تغييرات اجتماعية إجبارية نتج عنها تغيير في النمط الاستهلاكي وإعادة تخصيص الإنفاق الاستهلاكي، حيث بدأ الأفراد تهيئة بيوتهم لتصبح مناسبة لبيئة العمل فزاد الطلب على الأدوات المكتبية.
كما تزايد الطلب بشكل كبير على أدوات التعقيم والنظافة الشخصية والورق الصحي، بالإضافة إلى التحول في قطاع المطاعم حيث حدث تحول من الطلب على الطعام الجاهز للطلب على مكونات الطعام وطبخه في المنزل.
وبالتأكيد جميعنا شهد التراجع الكبير في قطاع السياحة والسفر وجميع المنتجات المرتبطة فيه. نتج عن ما سبق فائض في بعض القطاعات واختناقات في قطاعات أخرى مما ضاعف الأزمة التي تعرضت لها سلاسل الامداد.
لم يتوقف الامر عند ذلك بل انعكست أزمة سلاسل الإمداد على تباطؤ حركة الشحن لسببين:
- الأول الازدحام في الموانئ فعلى سبيل المثال في فبراير 2022، كان في موانئ لوس انجيلوس ولونج بيتش 78 سفينة حاويات لتفريغ حمولتها من البضائع وهذا يعتبر عدد كبير مقارنة في فترة ما قبل الوباء، حاليا في شهر سبتمبر ينتظر معدل 18 سفينة حاويات على الرغم من انخفاض عدد السفن إلا أنه ما زال عدد كبير مقارنةً بما قبل الوباء.
- السبب الثاني هو نقص العمال فعلى الرغم من أن قطاع الشحن يعاني من نقص في عمال الموانئ في فترة ما قبل كورونا إلا أنها تفاقمت بسببه، فعلى سبيل المثال كان هناك نقص في سائقي الشاحنات في أمريكا قبل كورونا 61,500 سائق زاد هذا النقص بنسبة 30% ووصل النقص إلى 80,000 منذ بداية الوباء.
نتج ذلك كله بطئ في تفريغ الحاويات وتلف السلع الطازجة مما ضاعف مشكلة العرض والاسعار تبعًا إلها. بذلك كان الأثر الأوضح للأزمة في نقص جانب العرض على الطلب وظهر بشكل واضح في الطلب المتزايد على الطعام ومستلزمات النظافة والوقود وغالبية السلع وأصبح مشهد الازدحام والقتال للحصول على السلع والأرفف الفارغة ليس غريبًا، لأن السوق يعاني من نقص حقيقي في السلع مما يعني أننا سنعاني من موجة تضخم حتمية.
اقرأ أيضًا: كيف تحدث الأزمات الاقتصادية؟
مشكلات عمقت أزمة سلاسل الإمداد.
بدأ العالم من التعافي من أزمة كورونا وشهدنا رفع القيود عن حركة الأفراد والسلع وبدأت الحياة الطبيعية بالعودة من جديد، إلا أن سلاسل الإمداد لم تخرج من دوامة الأزمة التي بدأتها كورونا، حيث عانى الاقتصاد من عدة ظواهر عززت الأزمة:
- ارتفاع الأسعار:
كما ذكرنا سابقًا أن المظهر الأوضح لأزمة سلاسل الإمداد نقص في عرض السلع عن الطلب، وهذا يوصلنا لنتيجة حتمية وهي التضخم المتصاعد الذي أدى إلى ارتفاع مستوى الأسعار لمتطلبات الحياة الأساسية من طعام ووقود وغير ذلك.
إلا أن إدارة تخطيط الطلب ( الجهة التي تقود بالتنبؤ والتخطيط للسلع التي يحتاجها المجتمع في المستقبل القريب) يتوقعون أن تعمل العائلات على خفض الإنفاق مما يعني التنبؤ باستهلاك سلع أقل، إلا أن ذلك يبقى تنبؤ لا يمكن الاعتماد عليه، وهذا يضع إدارة تخطيط الطلب تحت الضغط لأنهم أمام خيارين لا ثالث لهما:
- الخيار الأول: أن يبقى الإنتاج بنفس المستوى على إعتبار أنه من غير المؤكد أن ينخفض الطلب، لكن في حال إنخفاض الطلب سيؤدي ذلك إلى مشكلة في التخزين و يضطر المنتجون إلى تقليل سعر الناتج الفائض.
- الخيار الثاني: تخفيض الإنتاج لكن ذلك يجعلهم تحت ضغط عدم انخفاض الطلب ويتحملون مخاطرة نفاد المخزون وضياع فرصة الحصول على إيرادات كان من المتوقع الحصول عليها، وقد يفقد المنتج بسبب ذلك حصته في السوق.
هذه الحالة من عدم اليقين تصعب مهمة إدارة تخطيط الطلب في تقدير الكميات وأنواع السلع التي يحتاجها المستهلك بدقة، خاصة أن التجهيز للمواسم يتم قبل بمدة طويلة نسبيًا مما يعني أن التوقعات غير الصحيحة ستؤدي مجددًا إلى إنقطاع في بعض المنتجات وارتفاع أسعارها مما يضاعف أزمة سلاسل الإمداد مجددًا.
اقرأ أيضًا: لماذا نخشى تعويم العملة ؟
- نقص الطاقة:
لم يقتصر تأثير التضخم على أسعار الأغذية والسلع الأساسية بل امتد لقطاع الطاقة، حيث شهد العالم ارتفاع في أسعار الغاز ترافق مع انخفاض المعروض من الغاز الروسي مما فاقم الأزمة عالميًا. وشهدنا محاولات لعدة دول لاحتواء الأزمة أو التقليل من حدتها.
فبدأت العديد من الشركات الأوروبية في البحث عن مصادر طاقة بديلة مثل الفحم، في حين يتوقع أت تقوم 16٪ من الشركات الألمانية من تقليص الإنتاج أو الإيقاف الجزئي للعمليات التجارية وهنا لا نغفل أن ألمانيا أكبر اقتصاد أوروبي وتعتمد بشدة على الصادرات.
لم تقتصر إجراءات احتواء أزمة الطاقة على الدول المعتمدة على الغاز الروسي فمثلا باكستان اختصرت أسبوع عملها لخفض الطلب على الطاقة. كما أن بعض مصانع تجميع السيارات ومصانع الإلكترونيات في جنوب غرب الصين بدأت بالفعل في الإغلاق بسبب نقص الطاقة. كل هذا سيتسبب في زيادة اضطرابات سلاسل الإمداد العالمية.
اقرأ أيضًا: صندوق النقد الدولي وبرامج الإصلاح الاقتصادي.
- الإضرابات العمالية:
غالبًا ما يعقب التضخم اضرابات عملية للمطالبة بزيادة الأجور لتتناسب مع الارتفاع في تكاليف المعيشة، هذه الإضرابات العمالية أثرت سلبًا على الاقتصاد الذي يعاني في الأصل من أزمة في الإمداد.
فعلى سبيل المثال تسبب إضراب سائقو الشاحنات في كوريا الجنوبية في تعطيل سلاسل الإمداد لأجهزة الكمبيوتر، أثر إضراب السكك الحديدية في المملكة المتحدة على سلاسل الإمداد لمواد البناء.
- عدم اليقين الجيوسياسي.
لا يمكن إغفال أثر غزو أوكرانيا على التضخم في أسعار الغذاء والطاقة في العديد من الدول الذي أحدث فوضى في سلاسل التوريد نتجت عنها أزمة غذاء عالمية، حيث وصل مؤشر أسعار الغذاء الصادر عن الفاو أعلى مستوى له منذ 1990.
من ناحية أخرى التوترات بين الصين وأمريكا لم تتوقف فالتدريبات العسكرية الصينية في مضيق تايوان التي أقيمت بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي أدت إلى تعطيل أكثر منطقة شحن ازدحامًا في العالم، كما يمكن لأي تصعيد إضافي للتوتر أن يعطل سلاسل الإمداد المسؤولة عن أشباه الموصلات المستخدمة في أجهزة الكمبيوتر في جميع أنحاء العالم ، فتايوان تسيطر على 63٪ من السوق العالمية.
- الطقس القاسي:
تعتبر مشكلة تغير المناخ من المشكلات طويلة الأمد فيما يخص سلاسل الإمداد، حيث تعرض العالم لانخفاض مستويات المياه نتيجة للجفاف في مختلف أنحاء العالم وهذا أثر بشكل مباشر على سلاسل الإمداد الرئيسية.
المنسوب المنخفض من المياه يعني أن سفن الحاويات أمامها خيارين الأول أن تحمل جزء بسيط من حمولتها المعتادة أو أن تنتقل إلى طرق شحن أخرى إلا أن ذلك ليس بالسهل حيث يحتاج نقل سفينة واحدة 500 شاحنة!
تخيل أن نهر اليانغتسي الصيني الذي يعد ثالث أكبر نهر في العالم تم إغلاق أجزاء منه لأن مستويات المياه فيه أقل من المعتاد بنسبة 50٪، مع العلم بأن هذا النهر مسؤول عن 45٪ من الناتج الاقتصادي للصين.
لم تقتصر موجة الجفاف على الصين فثلثا أوروبا يعاني من ظروف الجفاف ويتوقع أنها تزداد سوء. حيث شهد نهر الراين انخفاض كبير في منسوب المياه فيه، مع العلم بأن نهر الراين يعتبر شريان رئيسي في أوروبا ويربط المصنعين الألمان بالبحر.
أثر جفاف نهر الراين على السفن بشكل مباشر حيث لا يمكنها حمل سوى ربع حمولتها المعتادة، وهذا يعني الحاجة لعدد أكبر من السفن بالتالي ارتفاع تكاليف الشحن وتحميلها للمستهلك الأخير لنشهد موجات جديدة من التضخم. من ناحية أخرى تزامن الجفاف في الأنهار الضرورية مع الحاجة لنقل كميات كبيرة من الفحم والغاز لتعويض النقص في الغاز في أوروبا. أضف إلى ذلك كله التنبؤات بشتاء قاسي أكثر من المعتاد مما يفاثم أزمة سلاسل الإمداد في أوروبا.
اقرأ أيضًا: 4 معلومات جوهرية عن معدل البطالة.
هذه المشكلات عمقت أزمة سلاسل الإمداد وأطالت مدة مكوثها، وكأن العالم عالق في دوامة لولبية لا يمكنه إيقافها، فهل سنشهد بعض التغيرات الجوهرية التي يمكنها حل هذه الأزمة أم أننا سنشهد الأسوأ!